التعليم.. نسج بنية ذهنية تؤسس للتنمية / د. شماد ولد مليل نافع
إن حجم مشاركة الأفراد في العملية الإنتاجية مرتبط بدوافع ذاتية تستغل معطيات ظرفية. وإن عملية نسج البنية الذهنية التي ستخلق الدوافع الذاتية لمشاركة لا تكل في الإنتاج من أهم أدوار المنظومة التربوية ويجب أن تأخذ مساحتها كاملة في العملية التعليمية إلى جانب نقل المعارف والخبرات. وإن مكانة الأمم تراكم ميراث مؤسساتي ومادي وعلمي أثمره, بشكل من الأشكال عند أجيال تعاقبت, دافع المشاركة في العملية الإنتاجية والالتزام بمنظومة قيمية تتمحور حول الأمانة على الأموال والحقوق. وإن بناء بنية ذهنية تؤسس للتنمية يتطلب تجذير مجموعة من المرتكزات من أهمها :
1. الإنتاج والمنزلة عند الله
إن الثروة تخلق ولا تنتظر, تخلقها العقول والسواعد من خلال توسيع وتنويع وتطوير وتكثيف العملية الإنتاجية. وان عزوف الأفراد عن المشاركة في العملية الإنتاجية يورث فقر الأمم وتخلفها عن الركب وعجزها عن تقديم الخدمات التي تقدمها الأمم للذين يقدر لهم أن يولدوا على أرضها, وقد يقود تدريجيا إلى عجزها عن تأمين استقلاليتها السياسية بما يترتب على ذلك من نتائج كارثية على العباد والهوية والدين, ولذلك تجب صياغة فقه العمل وفق رؤية تدرك أثر العلاقة العقائدية للناس بالعمل على التنمية, وتعطي العمل مكانة الصدارة التي يستحق بين أبواب الأجر. ويجب أن نعطي لتدريس فقه العمل وخلق دوافع المشاركة في العملية الإنتاجية عند الأفراد مكانة الصدارة في دروس مواد التربية الإسلامية والمدنية, وأن نفرق بين العمل الإنتاجي وبين المهن الوسيطة التي يشكل استفحالها في المجتمع استنزافا للمنتجين والمستهلكين, والتي يجب أن تحجم إلى حدودها الدنيا الضرورية لربط الصلة بين المنتجين والمستهلكين دون القبول بتهيئة ظروف استفحالها كما هو الحال عندنا اليوم.
ويجب أن نرسخ في أذهان أبنائنا جميعا خلال مرحلة تحصيلهم المعرفي, قصيرة أو طويلة, أن ما ينتجه المرء خلال مرحلة حياته – من مؤسسات ومصانع, وعلم ورأي, وإنتاج مادي يستظل الناس بظله, ينتفعون بنفعه مهما تكن صلتهم به قريبة أو بعيدة – لبنات منزلته في الآخرة, وأن مقام المرء عند الله مرتبط ارتباطا وثيقا بإسهامه في تهيئة مستقبل من سيأتون بعده. ويجب أن تكون أقوال أهل العلم في ذلك واضحة بينة تدرس في جميع المراحل التعليمية. فإما أن يكون هذا القول صحيحا تأصيلا فنصدح به, لأنه سبيلنا إلى الأجر ومطيتنا إلى التنمية, وإما أن يكون خاطئا فنقول للناس إننا أمة تركن إلى الانتظارية رضيت أن تكون ذيل الأمم, فوالله لن نسبق الناس أو نسابقهم وأيدينا كليلة عن العملية الإنتاجية نتفاضل بالعزوف عنها. وحين أقول أهل العلم لا اعني الأدعياء الذين تكاثروا تكاثر الفطر لا يقوم دليل على علمهم ولا تشهد به شهادة, رضوا أن ينزلوا من المجتمعات منزلة الطفيليات تكاد لا تحصى أموالهم ولا تعد لهم مشاركة في العملية الإنتاجية. فلا هم زهدوا في الدنيا, رضوا منها بالمُرمّق, فقلنا هؤلاء قوم جعلوا الزهد مذهبا استنكفوا عن دنيانا, ولا هم شاركوا في العملية الإنتاجية فأنتجوا فاستهلكوا وأبقوا. كيف يجتمع الدين وقبول المرء لنفسه بمنزلة الطفيليات المجتمعية؟ وكيف تنطلي انتهازية كهذه على مؤمن؟ لا بد أن يدرك العلماء أن مقام العالم مرتبط بمقتضيات القدوة أكثر من ارتباطه بحقيقة العلم, وأنه إذا لم تجعل آليات تحدد المستويات وتلزم بالمقتضيات, فإن هيبة العالم إلى اهتراء من كثرة الأدعياء, الذين لا يغبنون الناس إلا في مستوى عزوفهم عن التعفف عما عند الناس. ولا بد أن يدرك كبار العلماء وأساتذة الشريعة في الجامعات أن مسؤولية ترتيب الفوضى القائمة في هذا الحقل تقع بالدرجة الأولى على عواتقهم, لأنهم وحدهم يمتلكون القدرة على أخذ زمام المبادرة.
إن علاقة المشاركة في العملية الإنتاجية بالمكانة عند الله تحدد مستوى تنموية العقائد. وإن الأديان والمذاهب تتفاوت في مستوى تنمويتها, ويجب أن نعطي ترسيخ هذه العلاقة في أذهان النشء الاهتمام الذي تستحق من خلال مساحة كافية في العملية التعليمية.
2. الأمانة قيمة محورية
يجب بناء منظومة قيمية مشتركة, تجمع أبناء الوطن على اختلاف مشاربهم الجغرافية والثقافية, تتمركز حول القيمة المحورية للأمانة على الأموال والحقوق لأنه دون ذلك تنعدم الثقة في المؤسسات وبين الأفراد وتترنح التنمية لأن الثقة دعامتها الأساسية. فوالله لن تفلح أمة قبلت أن تكون الأمانة من نافلة المكانة. جعل كثير من نخبتها التزلف مطية والفساد غاية, واتخذ كثير من شيوخها ومشايخها “خمس الفساد تبييضا للمفسدين” مذهب حياة. يجب أن تأخذ المدرسة دورها الكامل في زرع الوازع وترسيج منظومة قيمية تتمحور حول الأمانة على الأموال والحقوق وقد توقفت عند أطلال الأمانة في مجتمعنا في مقال سابق على الرابط أسفله*.
3. العقلانية ترياقا للخرافات
يجب أن نحرص خلال جميع المراحل التعليمية على تطوير آليات التفكير العقلاني تبديدا لشوائب اللاعقلانية التي تزرعها البيئات الأسرية والمجتمعية الهشة معرفيا وثقافيا في عقول النشء. والتي يتلقفها الأطفال باعتبارها حقائق قطعية وتفسيرات يقينية, لأن الآباء والقائمين على التربية المنزلية عموما يشكلون في إطار الأفق المعرفي والعاطفي للأطفال مطلق العلم ومنبع اليقين. الخرافات التي إذا لم تفككها المدرسة ستظل تسوس طريقة تفكيرهم, تُنقص حياتهم, وتقيد سهمهم وإسهامهم في التنمية.
4. الإيمان بالإنسان – ترسيخ الثقة بالإرادة البشرية –
يجب أن نخرج من ثقافة تتفيه الإنسان وتعجيزه, التي تأخذ جذورها من الاعتقاد الساذج بأن تعظيم الله يمر حتما بتتفيه الإنسان وتعجيزه, بل أحيانا يصل الأمر حد الاعتقاد بأن تضعيف الإنسان عبادة نظهرها ثوب تدين, وهذا منطق لا يستقيم فإن الله العليم القدير لا يستخلف في أرضه من هو عاجز بطبعه عن أداء مسؤولية الأمانة**. وإن قدرة الإنسان وإبداعه لم يعد ضروريا أن يجوب المرء العالم ليدركها, فهي تقتحم عليه خيمته بأقصى بواديه. ولعل قدرة العقل البشري على فهم الظواهر وتسخيرها وصناعة الرأي من أعظم آيات قدرة الخالق وأيسرها للتأمل لأنها لكل امرئ لزيمة, ولعل سنام التدبر أن يتدبر العقل خلقه, فيستجلي قدرته ويتبين قدره ومسؤوليته وعظمة خالقه. وإن ثقافة تضعيف الإنسان تورث وهن الإرادة والاستسلام للعجز, وتنسج قيودا ذهنية تعيق مسارنا في سباق الأمم, وهي تجد جذورها المنطقية في سحب ضعف الفرد على الإرادة البشرية. فالفرد بنية بيولوجية كسائر البنى البيولوجية لبقية أحياء خلق الله تحمل في كنهها معادلة التشكل والتفكك, معادلة التنشيء, معادلة ضعف التهالك,… معادلة الهلاك. وإن سحب ضعف الفرد المرتبط بالبنية البيولوجية على قدرة الإنسان المرتبطة بالعقل خطأ جوهري, فمقابل هذا الضعف البيولوجي الذي لا فكاك منه, تنتصب شامخة قوة الإرادة البشرية لا تحدها إلا حدود قدرة العقل الذي جعله الله للإنسان أداة الخلافة, لا تحد قدرته إلا حدود مهمة الاستخلاف الأمانة التي عهد إلى الإنسان بها.
يجب أن يأخذ زرع الإيمان بالإنسان, بالقدرة البشرية عند النشء المكانة التي يستحق في المنظومة التعليمية لننتج أجيالا بعزيمة لا تقهر على امتلاك ناصية العلم وإرادة الإبداع وخلق الثروة ومنافسة الأمم.
إننا إذا لم نرسخ منظومة قيمية تتمحور حول الأمانة على الأموال والحقوق, ونجذر العقلانية, ونبني علاقة سليمة بالعمل وإيمانا راسخا بالإرادة البشرية, تكون المعارف والخبرات التي نعلمها لأبنائنا زراعة أرض عقيمة. وإن خطأنا التربوي الجوهري هو أننا أهملنا أرضية المعرفة, أهملنا عملية بناء الدوافع الذاتية عند الفرد للمشاركة في العملية التنموية, والتي يشكل التفكير العقلاني والإيمان بالإنسان, والعلاقة السليمة بالعمل, ومنظومة قيمية محورها الأمانة على الأموال والحقوق, ركائزها الأساسية.
وفق الله وأعان