كيف نتقدم كما يتقدم الجميع؟! / التراد ولد سيدي

عندما فكر المسؤولون الفرنسيون في تقطيع المنطقة وتحديد ملامح التكوينات الاجتماعية التي ستسمى دولا فيما بعد في هذا الجزئ من القارة كانوا يفكرون في أن هذه البلاد التي أرادوها موريتانيا التي نرى اليوم وقد قطعوا منها من الجنوب والشرق مئات آلاف الكيلومترات( من أرض البظان )عجم وعرب في الشرق ازواد ونواحيه وفي الجنوب خليط من العرب السمر والفلان والسونوكي ( قطعوا المجموعتين لمالي) و في الشمال ما يقرب من نصف مليون كم في الصحراء للإسبان مُشَكِلة مايشبه الجدار بين بر المغرب الأقصى وجنوب الصحراء الممتد حتى نهر صنهاجة ( نهر السينغال اليوم) لقد كانوا يفكرون بأنهم شينشؤون كيانا متميزا وغنيا جدا بسبب مايتوفر عليه من مناجم حديد قليلة المثال في الكم والنوع و شاطئ للمحيط غني بأنواع الأسماك التي ستستمر الحاجة لها مستقبلا في العالم ماستمر الإنسان يبحث عن البروتين، وثروة هائلة من الصمغ العربي الذي كان السبب في إقدام فرنسا على احتلال البلاد و بالإضافة إلى هذه الثروات توجد ثروات حيوانية هائلة ملايين الحيوانات الداجنة إبل وبقر وأغنام وخيول وحمير وملايين من نوعيات وأصناف الحيوانات غير الداجنة والوحوش والطيور المستوطنة والمهاجرة مما يعكس بالإضافة للثروة الحيوانية تنوعا بيئيا يشكل وجهة سياحية للذين يهتمون بالمناظر الطبيعية وتنوع المخلوقات البرية !!
لقد كان تفكير المستعمر في مكانه بغض النظر عن الأهداف التي كان يضمر من وراء ذلك لتحقيق مصالحه، إن هذه الثروات يستحيل أن تجتمع في مكان إلا جعلته غنيا يرفل أهله في النعيم والبذخ والتمتع بمباهج الحياة وتتوفر لهم كل أسباب الرقي والنمو والتطور في كل المجالات الشيء الذي لم يحدث بسبب عوامل سنتطرق لها.
ولقد أعدت فرنسا لاستغلال مناجم الحديد في وقت مبكر بإقامة شركة (ميفرما) كذراع “لكارتيلات” اتحاديات عالمية في مجال المناجم ومن فرط اهتمامهم بموضوع استغلال مناجم الحديد قام الجنرال ديغول بزيارة (كدية جل) قلب تركز المناجم!!
فكيف لم تسر الأمور كما كانت تتوقع فرنسا؟
لقد كانت تتوفر في مشروع دولة موريتانيا كل أسباب الغنى لو وجدت قيادة سياسية واعية لديها قوة بشرية تضع الخطط وتنفذها باقتدار وتدشن برامج حماية واستغلال الثروات بأسلوب علمي صحيح لقد كان المغفور له المختار بن داداه يتسم بالعقل والحكمة وسعة الثقافة ومعه أفراد قلائل من المكونين العربي والزنجي لابأس بنضجهم ووعيهم لكنهم بسبب نقص الكادر الإداري الوطني الواعي في بنية التشكيل الذي بدأ به البلد تسيير كيان الدولة الوليدة فجر ٢٨ نوفمبر ١٩٦٠ لم يكن بإمكانهم تغطية كل حاجات الكيان الجديد في المجالات المختلفة فلم يستطيع النظام الجديد إيجاد إداريين في مختلف المناطق إلا باستعمال الكثير ممن لا علم لهم بالإدارة وبعضهم شبه أميين وفي كل المجالات عانى من نقص شديد في الأطر في التعليم الذي حظى بأولوية عند قيام الدولة الناشئة فقد اعتمدت الدولة مستويات بسيطة جدا من المعلمين ولولا اعتمادهم على الموظفين من الإدارة التي كان النظام الأستعماري في سينلوى في السينغال يستعملهم من مختلف الأقطار الإفريقية جنوب الصحراء لما استطاعوا تكوين تشكيل مصالح الإدارة الجديدة
في هذه الظروف وخلال عدة سنوات لم يكن يمكن التفكير في حماية الثروات ولا في استغلال الممكنات بسبب عاملي الوعي والوسائل يذكرني مثال 🙁 سنة ١٩٦٣ كنت صغيرا في طرف مجلس في مدينة تمبدقة يضم بالإضافة لبُيَاغِي بن عابدين و حمود بن أحمدو و الدَّيْ بن ابراهيم رحم الله الجميع وكانوا يتحدثون عن وفد أجنبي ذكرت الإذاعة أنه في انواكشوط فقال بياغي بن عابدين: المشكلة أن هذا الوفد لن يجد من يتناول معه أمرا ذا أهمية مما يفيد الوطن) لقد اعترض قيام هذا الكيان الجديد النقص الشديد في القوة البشرية ونقص الوعي بمتطلبات العناية بالمقدرات وتطوير وتنمية البلد .
بعد الاستقلال مباشرة بدأت الثروات الطبيعية تتعرض للتخريب بتدمير الغابات والغطاء النباتي دون هوادة وجرى تقتيل الحيوانات البرية والوحوش في عملية إبادة عجيبة دون جهد يذكر من السلطة للحماية، لقد كانت السلطة مشغولة بتنوع المشكلات التي تواجهها داخليا وخارجيا، وبدأ قطاع الصمغ العربي يتأثر شيئا فشيئا مع تقدم تدمير الغطاء النباتي وبمجيء سنوات الجفاف تم القضاء على ماتبقى من الحيوانات االبرية والوحوش والطيور ومن ثروة الصمغ العربي ولم تكن الثروة السمكية بمنأى عن الضياع نتيجة نفس الظروف لقد استمرت الثروة السمكية نهبا لكل سفن العالم وفي المقدمة سفن أوروبا الغربية والأتحاد السوفياتي واليابان وكل من تمكن من إرسال سفن صيد شارك في النهب فمن سنة ١٩٦٠ إلى ما بعد السبعين لم يكن هناك راعي ولاناه عن ثروات البحر ولم يبقى نوع من الاستغلال غير المشروع والمضر بمستقبل الثروة السمكية إلا مورس وعندما بدأت الدولة الاعتناء بالقطاع استخدمت نظام مراقبة غير فعال وربما أكثر ضررا مما كان عليه الحال بسبب سوء المراقبة وعدم نزاهة المكلفين بها وسوء الاتفاقيات التي وقعت مع بعض الجهات وضعف المتابعة لقد كان تدمير الثروة السمكية أخطر وأعمق أثرا مما يمكن تصوره .
ولم توضع طيلة هذه الفترات سياسة معينة للحماية والاستفادة من الثروة الحيوانية التي برغم أهميتها ظلت تتعرض للإهمال وتعاني الأمراض و نقص المراعي نتيجة تدمير الغطاء النباتي وزحف التصحر الذي أصبح بعد سنوات الجفاف يكاد يغطي كامل التراب الوطني، ولولا الدول الصديقة المجاورة مالي بالدرجة الأولى والسينغال بالدرجة الثانية لكانت الثروة الحيوانية انتهت مع انتهاء الوحوش التي أبيدت والغابات التي دمرت ،لقد سمح رعيِ الحيوانات في الدول الصديقة المحافظة على بعضها حتى الآن.
أما الثروة المعدنية فقد كانت أهم الثروات التي تم الاعتماد عليها رغم التعثر في تطوير الإنتاج ولقد تغير الوضع نسبيا بعد التأميم .
بعد مرحلة نقص الخبرة والكادر جاءت مرحلة سوء التسيير والفساد؟ !
لقد بدأ نظام المغفور له المختار بن داداه يتمكن شيئا فشيئا من بداية السبعينات من وضع سياسات اقتصادية وتخطيط وبرمجة لمشاريع بعدما تخرجت دفعات من الأطر من مختلف الأختصاصات وقام بتأميم شركة مناجم الحديد ( ميفرما) التي أصبحت ( اسنيم) كما بدأ يتوسع في التنجيم باستغلال منجم النحاس في آغجوجت ومنجم التراب النادرة في بوناغة، وسك العملة الوطنية وبدأ التخطيط لمشاريع صناعية وسدودا وبنا طريق الأمل ،لقد بدأ البلد يتحرك في خطوات أولية نحو النمو قبل أن تبدأ حرب الصحراء التي أوقفت كل شيء عندما بدأت تستنزف القدرات المالية الموريتانية المحدودة لصالح المجهود الحربي ومما زاد الأمور سوئا ماتعرضت له مناجم الحديد عندما صار القطار الذي ينقل الخامات للتصدير هدفا للبوليزاريو وبعد انقلاب الجيش على النظام الذي قاد البلاد منذ الاستقلال بدأ شكل جديد من السياسات وأساليب الحكم.
لقد كان أول عائق حال دون النمو بعد الاستقلال نقص الخبرة ونقص الكادر البشري وبعد عقد من الزمان بدأ يخف تأثير نقص الخبرة والكادر فبدأ الوضع يتطور بشكل محسوس قبل كارثة حرب الصحراء، أذكر أن الحكومة الموريتانية سنة ١٩٧٥ أعطت منحة مالية بمئات الملايين لجزر الرأس الأخضر وفي تلك السنة تم التخطيط لكثير من المشاريع وتم بدؤ بناء طريق الأمل..
لقد كان تقدمنا بسيطا وكنا نرى الدول في مختلف أنحاء العالم تتحرك بسرعة لهزيمة التخلف والفقر والمرض رأينا دولا استقلت بعدنا وبدأت تتطور ودولا استقلت معنا في نفس التاريخ و تتحرك وتتقدم ونحن في شبه الوضع الذي بدأنا به استقلالنا لولا الخطوات التي بدأت قبل بداية حرب الصحراء
ولقد كان نظام ولد داداه مع بساطة وسائله لديه رقابة مالية صارمة لاتسمح بالتجاوز على المال العام ولا نزال نذكر ارتعاد فرائص من يتم تفتيشهم واعتقلو أشخاصا مهمين على مبالغة صغيرة لقد كان لديهم نظام لو استمر لن يكون الوضع كما هو الآن.
وبمجيئ النظم العسكرية بعد انقلاب عشرة يوليو ساد شكل من سوء التسيير أوقف كل شيء وقطع الطريق على أي تقدم ولو بسيط لقد ظهر أن سوء التسيير أسوؤ كثيرا من الجهل ونقص الكادر اللذين عرقلا الانطلاقة في المرحلة الأولى، لقد تطور سلوك سيء يمتهن التلاعب بالمقدرات ونهب كلما تقع عليه أيديهم لقد نمى كالفُطَرْ وتفشى في المجتمع سرقة المال العام وأصبح سلوكا مسلما به قيل أن معاوية الذي كان ينتقد قبل وصوله للحكم سوء التسيير تحدث إليه أحد أصدقائه لعله الأستاذ الشيخ ولد باه عن ضرورة الحذر من الفاسدين فقال له : ماذا أعمل مع مجتمع كله هكذا ؟! من أين لي بأناس غير هؤلاء ؟
يرى البعض أن هذا الفساد الذي نمى واشتد عوده في أثناء الأحكام العسكرية أنه بسبب جهل العسكريين ونقص خبرتهم وهذا غير صحيح إن سوء التسيير أقوى في من يدعون الثقافة ويحملون الشهادات العليا من المدنيين فلن تجد حامل دكتورا أو ماجيستير يتهيب أو يخشى أي مستوى من الأختلاس وأنواع الأستحواذ على كل ماتصل إليه يده دون أن يرف له جفن إلا من رحم الله. فالعسكريون ليسوا “أخف يدا ” من الأساتذة الكبار الذين يمتلكون أكثرية دور تفرق زين التي لايستطيعون برواتبهم شراء قطعها الأرضية !!
لقد اعتبر الكثيرون أن نظام ولد الطائع أكثر الأنظمة التي نما فيه الفساد وقد يكون لذلك جانب من الصحة إلا ان ولد الطائع نفسه خرج نظيف اليد لايملك دارا ولاحسابا!! وقبله ولد هيدالة مهما كانت المآخذ عليه فليس منها أخذ المال العام .
ونحن الآن على مستوى العالم لانرى أنظف يدا ولاوأبعد نظرا ولا أرشد عملا من بولكا غامي زعيم روندا وهو عسكري ولم نرى أبعد نظرا ولا أحكم حكامة من نلسن مانديلا و إن كان غير عسكري فإنه مناضل أكثر عمره أمضاه في السجون وليس من الأكادميين الكبار الذين نرى أمثالهم فينا يحملون لواء سوء التسيير وتعطيل تقدم البلد بسبب النهب المتواصل لكل المقدرات فهم أكثر المسؤولين في كل مفاصل الإدارة وهم مديري المؤسسات المختلفة وكل التلاعب بالمقدرات بفعلهم وتوجيههم ومشاركتهم!!
إذا لم نوقف الفساد فلن نقطع خطوة واحدة إلى الأمام!
إننا حتى الآن لم نرى ما يطمئننا إلى إمكان وقف الفساد وتحسين التسيير لكننا نرى أننا لكي نتجاوز واقع التخلف وسوء الحال لابد أن نبدأ إعداد مشاريع ضخمة تكلف عشرات ملايير الدولارات لكي نتجنب ضياع الأموال التي ستَرِدنا من الغاز واليورانيوم والذهب ومن كل المصادر الأخرى فعدم وضع خطط كبيرة لمشاريع استراتيجية سيفوت علينا فرصا متاحة قد لاتستمر وستضيع لنا ثروات هائلة بسبب قصر النظر وضعف التخطيط ،لكن ضمانة برمجة بناء مشاريع استراتيجية يمر عبر وضع برنامج موازى لمحاربة الفساد وتهميش الفاسدين .
إن المشاريع ذات النفع الكبير كثيرة وفي كل جوانب الحياة توجد أمور تستحق الأهتمام لكننا نعتقد أن الأولوية لثلاثة مشاريع سيكون توجيه المال إليها وإنجازها طفرة كبيرة تجعل الوطن يحلق تحليقا يمكنه من احتلال المكان الذي يناسب ثروته وحاجات شعبه وهذه المشاريع هي :
أولا: مشاريع تحلية مياه البحر لتزويد تيرس وآدرار بحاجتهما من المياه إنه مشروع مكلف جدا لكنه أكثر فائدة مما سينفق عليه وبدونه سيصعب استمرار التعدين في مناجم الحديد في تيرس ومناجم الذهب في إنشيري وسيموت النخيل في واحات آدرار الجميلة وله تأثير على أمور كثيرة أخرى،وفي إطار مشاريع الماء يجب:
١- الأستفادة من مياه النهر في حدود مايمكن وصول ماء النهر إليه من مناطق لبراكنه واترارزة.
٢- وضع سدود على كل المجاري على نطاق الوطن.
ثانيا: بناء ثلاث طرق وطنية رئيسية بمواصفات الطرق العالمية ( الأوتو روت) تربط مختلف نواح الوطن من انواذيبو إلى باسكنو ومن بير ام غرين إلى سليبابي ومن انواكشوط عبر روصو وكيهدي وسيلبابى إلى عدل بقرو هذه المشاريع مكلفة لكنها حاسمة في مجال التنمية.
ثالثا: استصلاح جميع الأراضي الزراعية المهيئة لذلك وزراعتها في ضفة النهر ومختلف السدود والتجمعات المائية ليتم الأكتفاء الذاتي وتصدير الفائض الذي لن يكون بسيطا أو قليلا!!
إن عدم تنفيذ مشاريع ضخمة كهذه سيعرضنا لاستمرار المراوحة في مكاننا والتخبط في مشاريعنا وخططنا وإن برمجة مثل هذه المشاريع سيحمي ثروتنا من الضياع وسيدخلنا مرحلة التنمية والازدهار لكننا لن نستطيع تحقيق ذلك والفساد يخيم على كل شيء فلكي نحقق كل هذه المشاريع الضخمة ذات الفائدة المحققة لابد من تحييد أياد وعقول الفساد المنتشرة في كل مكان والمتحفزة دوما لوقف كل خطوة متقدمة للرقي والتقدم اللذين إن تحققا قضيا على الفساد واجتثا جذوره وفتحا الطريق للخلق والإبداع وإيجاد كل جديد.
خلاصة:
لقد استمرينا أكثر من ستين سنة دون حراك الكل يمر علينا ويتجاوزنا كل الدول دخلت مراحل من التقدم نحسبها نحن خارقة أو مستحيلة وهي بسيطة وسهلة المنال لمن يعمل ويفكر الدول بجوارنا في الجنوب وفي الشمال تقيم بنى تحتية متينة وطرق حديثة ومصانع ناجحة وتعليم جيد ونحن من مشكلة إلى مشكلة فشلت كل مصانعنا وأفلست وما زال تعليمنا يبحث عن إصلاح لم يحن وجوده!! دول كان يعتبر تقدمها مستحيلا كالهند وكبن غلاديش تتقدم وتتطور ماليزيا،سنغفور، روندا، كينيا حتى الصومال بدأت تتقدم علينا وجزر الرأس الأخضر التي كنا نساعدها تقدمت علينا إلى متى نستمر واقفين والجميع سائرون متخلفين والكثيرين يتقدمون ؟؟!!لقد حان لنا أن ننهض حان لنا أن ننهض حان لنا أن ننهض!!!