تقرير مشاورات إصلاح النظام التعليمي – خلاصة وتعليقات / المختار ولد كاكيه

مقدمة في الإطار العام: نظمت في الأسبوع الماضي جلسات للتشاور الوطني حول إصلاح النظام التعليمي، حظيت برعاية رسمية عالية المستوى؛ حيث أشرف على إطلاقها رئيس الجمهورية، وعلى اختتامها الوزير الأول.

وحسب المصادر الرسمية، فقد دعي للمشاركة فيها ما يزيد على 500 مشارك من مختلف الأحزاب السياسية ومنتخبي الشعب وممثلي المركزيات النقابية وعدد كبير من خبراء التعليم والمدرسين ومنظمات المجتمع المدني، مع حضور بارز لجمعيات ترقية اللغات الوطنية، وكان هدفها العام هو تشخيص وضعية التعليم وتدارس أنجع السبل لانتشاله من الوضع الذى يعيشه.

وفي كلمة له بمناسبة اختتام هذه الجلسات، أكد وزير التهذيب الوطني وإصلاح النظام التعليمي أن هذه الأيام انطلقت من الرؤية التي تضمنها برنامج رئيس الجمهورية والسياسة العامة للحكومة واستندت إلى تقارير الأيام التشاورية الجهوية ونتائج استثمار الإصلاحات السابقة واستغلال تقرير منتديات 2013، وأن المشاركين خلصوا إلى صياغة وثيقة ترسم ملامح المدرسة التي يجد فيها كل موريتاني ذاته، وبينوا معالم الطريق التي يمكن اتباعها لتجسيد هذه المدرسة على أرض الواقع.

ومن ضمن ما أفاد به الوزير أنه تم الإجماع على اختيار لغات التدريس واللغات المدرّسة بما يعزز مكانة اللغة العربية ويضمن للغات الوطنية الأخرى (البولارية والسوننكية والولفية) المكانة المناسبة ويرشّد اختيار لغات الانفتاح ويرفع من مستوى تدريسها.

وأضاف أن مخرجات هذه الأيام ستشكل مستندا لإعداد القانون التوجيهي لمنظومتنا التربوية، وإعداد خطة عشرية لإصلاح القطاع، مما سيجسد الإطلاق الفعلي للمدرسة التي يريدها الجميع بطريقة محكمة.

وأوضح أن نجاح هذا البرنامج يتطلب تبنى مخرجات هذه الأيام من طرف كافة أطياف المجتمع وخصوصا شركاء المدرسة، وطالب المشاركين في هذه الجلسات بتبنيها.

ويهدف هذا المقال الذي بين أيديكم إلى قراءة تلخيصية لنتائج هذه الأيام التشاورية كما تضمنتها الوثيقة المنشورة باسم “تقرير الصياغة العامة” للمشاورات الوطنية حول إصلاح النظام التربوي، مع التركيز في ذلك على ما يتعلق بأهم انشغالات الرأي العام الوطني اليوم، وهو موضوع لغة التدريس وتدريس اللغات في إطار الإصلاح المرتقب.

وقد اعتمدت في التلخيص على منطوقات هذا التقرير، وحيث احتملت السياقات فهوما مختلفة أشرت إلى ما فهمته شخصيا.

كما اخترت أن أضيف تعليقات مختلفة رأيتها تثري النقاش وتفيد في استحضار واستثمار تجارب الدول الأخرى من حولنا.

يتبنى هذا المقال لتلخيص ما قررنا التركيز عليه من هذا التقرير منهجية تعتمد على استعراض مضمونه من خلال عنوانين كبيرين، وعناوين فرعية، تقابل في مجموعها المستويات التعليمية لنظامنا التعليمي الجديد المقترح.

لذلك ستكون عناوينه كما يلي:

1/ التعليم القاعدي : ويشمل كعناوين فرعية:

أ/ التعليم ما قبل المدرسي؛

ب/ التعليم الأساسي (الابتدائي)؛

ج/ التعليم الإعدادي؛

2/ التعليم الثانوي.

1/ التعليم القاعدي (ما قبل المدرسي – الابتدائي – الإعدادي)

ه=================================ه

يوضح التقرير:

– أن خيار المدرسة الجمهورية الذي وعد به الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في برنامجه الانتخابي يفرض ترتيبات جديدة تتيح توحيدا مستداما للنظام التربوي الوطني على قواعد صلبة حول مدرسة جامعة تمثل بوتقة موحّدة يجد فيها كل الموريتانيين ذواتهم، على تنوعهم الثقافي؛

– وأن هذه المدرسة تهدف إلى أن تضمن للطفل الموريتاني تعليما متعدد اللغات يعزز التجذّر الثقافي، والوحدة الوطنية، والانفتاح على الثقافات والحضارات الكونية؛

– وأن الهدف الأسمى في كل ذلك هو تربية الأجيال الصاعدة على الروح الوطنية، وترسيخ الوعي لديها بالهوية الوطنية، والشعور بالانتماء إلى ثقافة غنية ذات أبعاد وطنية، إسلامية، عربية، إفريقية، عالمية؛

– وأن التعليم القاعدي مدته 10 سنوات، متضمنا امتدادا منسجما لست سنوات من السلك الأساسي، وثلاث سنوات من السلك الإعدادي، والسنة الأخيرة التحضيرية من التعليم ما قبل المدرسي.

وتتناول العناوين الفرعية التالية هذه المراحل الثلاثة للتعليم القاعدي: أ- التعليم ما قبل المدرسي، ب- التعليم الأساسي (الابتدائي)، ج- التعليم الإعدادي.

أ/ التعليم ما قبل المدرسي

ه———————–ه

يفيد التقرير بمجموعه بما يلي :

– إعادة هيكلة التعليم ما قبل المدرسي وتوسيع تغطيته من منظور تعميم السنة الأخيرة من هذا الطور ودمجها في المنظومة كجزء لا يتجزّأ من التعليم الإجباري؛

– سيتم تطوير نشاطات اللعب والإيقاظ عن طريق اللغات الوطنية )البولارية، أو السوننكية، أو الولفية)؛

– سيجري تعليم المعارف ونشاطات الفهم والتعبير باللغة العربية، مع الاستعانة عند الحاجة باللغات الوطنية الأخرى؛

– سيتم تعليم التهجية العربية وتحفيظ سور من القرآن الكريم في وقت مبكّر من حياة الطفل؛

– سيُهيّأ الأطفال لسلك التعليم الأساسي بسنة من التعليم ما قبل المدرسي، يستثمر مكتسبات المحظرة(دودال بالبولارية، واخرانييبى بالسوننكية، ودارا بالولفية) لمدة سنة إجبارية في البداية ستتطور لاحقا حتى تصل إلى ثلاث سنوات؛

– في التعليم قبل المدرسي، سيتم إطلاق تجريب السنة المحضّرة للتعليم الأساسي في أكتوبر 2023، ويكتمل تعميمها فور اعتبار نتائج التجريب مرْضية على أساس تقييم علمي.

تعليق: تعتبر تجربة الكتاتيب العصرية في السنغال، المسماة Daara moderne، التي جسدها مشروع من تمويل البنك الإسلامي للتنمية، تجربة رائدة وينصح بالاستفادة منها، إذ يمكنها أن تفيدنا كثيرا في موريتانيا في تصميم كتاتيب عصرية تعتمد علميا على خصوصية تجذر التعليم المحظري في أريافنا، وتوفر عمليا فرصة لتعليم ابتدائي مواز للتعليم النظامي وجسر عبور إليه، بكلفة أقل، خاصة في ظل مشكل التقري العشوائي الذي جعل الكثير من القرى والتجمعات لا تستجيب لمعايير الخارطة المدرسية.

ب/ التعليم الأساسي (الابتدائي)

ه—————————-ه

يوضح التقرير أن المقاربة التي ستتبع بالنسبة للغات التدريس وتدريس اللغات ستتضمن ما يلي:

– ستُدرّس العربية لجميع الأطفال غير الناطقين بالعربية بوصفها لغة تواصل وبوصفها ناقلة لمضامين المواد الأخرى؛

– ستُدرّ س العلوم في بداية المسار الدراسي باللغات الوطنية لترسيخ استيعاب المعارف وتفادي تشتّت ذهن الطفل في تعلم لغة التدريس وتعلم المضامين المدرّسة في الوقت ذاته. وكإجراء انتقالي، سيتم تدريس المواد العلمية باللغة العربية.

– ستُدرّس الفرنسية ابتداء من السنة الثانية الأساسية بصفتها لغة تواصل ومن منظور إمكانية استخدامها لغة تدريس لبعض المواد العلمية في المراحل ما بعد الابتدائية.

وفي هذا السياق يشير التقرير إلى إعادة النظر في دور ومكانة التعليم الخاص مع مراعاة حقوق الأطفال وأسرهم، وأهداف التعليم في نفس الوقت، بحيث لا يتضرر مبدأ مجانية التعليم القاعدي.

تعليق : يبدو ذلك مترجما لتعهد في برنامج رئيس الجمهورية، يتضمن البدء ببرنامج للقضاء “التدريجي على المدرسة الأساسية الخصوصية التي ظهر أنها تفاقم الفوارق الاجتماعية. ولذلك ستحل محلها وبنفس التدريج مدرسة أساسية عمومية حاملة لمعاني التلاحم الاجتماعي والوحدة الوطنية”.

ويفهم من التقرير :

– أن التعليم الأساسي سيكون في الأمد القريب المجال الرئيس لتطبيق السياسة الجديدة للتدريس بكل اللغات الوطنية؛

– وأنه سيتم تدريجيا توسيع التدريس بكل اللغات الوطنية إلى المستويات اللاحقة، تبعا لتقدم ونجاعة الخطط التي ستوضع لترقية اللغات الوطنية الثلاث (البولارية، والسوننكية، والولفية) بالاستفادة من التجارب المثيلة، وأن الهدف السامي في المنظور المتوسط والطويل هو “أن يتلقى الأطفال الموريتانيون التعليم في جميع المستويات باللغات الوطنية: العربية، والبولارية، والسوننكية، والولفية؛

تعليق:

يبدو من المفيد الاستفادة من تجارب دول ذات واقع لغوي شبيه مثل: المغرب، والسنغال، ومالي، وغينيا، التي لا تزال إجمالا في طور تجربة وترسيخ خيار التدريس باللغات الوطنية في التعليم ما قبل المدرسي وفي التعليم الأساسي وتقييم ذلك الخيار وتحسينه.

وتبدو لي ملهمة بشكل خاص التجربة السنغالية الحالية المتعلقة بإدخال اللغات الوطنية (الولفية، البولارية، لغة السرير) إلى التعليم الأساسي، خاصة الجهود المبذولة بالتعاون مع منظمةARED ، ولها تقارير منشورة حول ما تم القيام به لتذليل الصعوبات ذات الصلة وما أثبتته في النهاية من جدوائية تدريس الأطفال بلغة الأم.

كما تبدو لي مفيدة كذلك دراسة التجربة الغينية التي كانت -على غرار التجربة الموريتانية- سباقة إلى قرار التدريس باللغات الوطنية قبل أن تتوقف التجربتان منتصف الثمانينات من القرن الميلادي المنصرم بسبب صعوبات ينبغي تحليلها واستخلاص الدروس والعبر منها لتسهيل القرار الجديد حول الانطلاقة الجديدة للتدريس بكل اللغات الوطنية في بلادنا.

وحول الانطلاقة الجديدة للتدريس بكل اللغات الوطنية التي كانت من أبرز مخرجات الأيام التشاورية، يتضمن التقرير في ثناياه تفصيلات أخرى، أهمها ما يلي:

أولا: يرسم الإصلاح الجديد على رأس أولوياته التعليم الفعلي لجميع اللغات الوطنية. وهذا هدف طموح لكنه شرعي وقابل تماما للتحقيق . فلا مسوّغ بتاتا لأن تظل بلادنا بعد 60 سنة من الاستقلال السياسي عاجزة عن تحقيق سيادتها اللغوية. إن لأطفالنا الحق في أن يتلقوا تعليمهم بلغاتهم الوطنية ومن واجب أمتنا أن توفر لهم الإمكانيات لذلك.

لقد آن الأوان لنظامنا التربوي لكي يخرج من شرنقة الثنائية التي تفرض عليه الخيار بين العربية والفرنسية في ظل ازدراء لغاتنا الوطنية الأخرى (البولارية، والسوننكية، والولفية). ذلك أن جميع لغاتنا متساوية من الوجهة الدستورية القائمة على شعار: شرف – إخاء – عدل.

ولا ينبغي ولا يجوز أن تُعامل على غرار لغة أجنبية مهما كانت صلاتنا التاريخية بها . صحيح أن هذه الصلات التاريخية يمكن أن تمنحها مكانة كأول لغة انفتاح .

لقد سبق أن جرت قبل أربعين سنة في إطار إصلاح 1979 تجربة لتدريس لغاتنا الوطنية اعتُبرت نتائجها إيجابية، لكنها سرعان ما تم التخلي عنها دون مبررات معقولة مما كرّس وضعا غير مقبول ومضرّ بنظامنا التربوي من حيث دوره في ترسيخ الهوية الوطنية.

ثانيا : علاوة على إقرار تدريس اللغات الوطنية الثلاث التي ظلت مهملة حتى الآن في نظامنا التعليمي، فإن ترقيتها تقتضي كهدف استراتيجي تطويرها حتى تصل إلى مستوى اللغات العالمية الناقلة للمعارف. وذلك ما يتطلب استراتيجية على المدى الطويل تُجنّد لها الوسائل اللازمة. ولن يتحقق هذا الهدف الاستراتيجي إلا عندما تصبح لغات تدريس في التعليم العالي وأدوات للبحث العلمي.

وتتمثل الإجراءات المزمعة بهذا الصدد في ما يلي :

– إعداد استراتيجية وإطار مرجعي لتدريس اللغات الوطنية (البولارية، أو السوننكية، أو الولفية) في مختلف مراحل النظام التعليمي.

– استثمار تجارب معهد اللغات الوطنية السابق وقطاع اللغات الوطنية بجامعة نواكشوط -الحالي وإنشاء هيئة جديدة مزوّدة بكفاءات مؤسسية وفنية وبوسائل عملية تمكن من تسريع الترقية والتفعيل لتدريس تلك اللغات الوطنية. ويمكن أن تكون هذه الهيئة على شكل معهد لترقية اللغات الوطنية يستثمر حصيلة تجارب المعهد السابق باعتبار نتائجها الإيجابية .

– تحديد مقاربات تربوية كفيلة بترقية تعلّم وتعليم البولارية، والسوننكية، والولفية بمراعاة خصوصيات وحاجات مختلف الفئات المستهدفة.

– إقرار تطبيقات وبرمجيات متطوّرة لتدريس اللغات الوطنية وفق أكثر الطرق نجاعة .

ثالثا : زيادة على البدء في تدريس اللغات الوطنية الثلاث الوطنية (البولارية، أو السوننكية، أو الولفية (في التعليم الأساسي، سيتم إدخال تدريس هذه اللغات في المدارس ذات الطابع المهني (مدارس تكوين موظفي الدولة، مدارس التكوين المهني والتقني، إلخ)، لتسهيل تواصلهم مع السكان خلال أداء مهامهم وممارسة وظائفهم .

رابعا : إنشاء هيئة مكلفة بترقية اللغات الوطنية يُعهد إليها بمهمة )أ( قيادة تجريب تعليم اللغات الوطنية وتهيئة تعميمها، )ب( تصور وقيادة استراتيجيات التعلم اللغوي ضمن النظام التربوي.

خامسا : كبرنامج زمني، يلزم إنشاء الهيئة المكلفة بترقية اللغات الوطنية قبل الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر 2021 ؛ وإصدار جميع النصوص المتعلقة بهذه الهيئة قبل الثلاثين من مارس 2022 ؛ وإقامة فرق البرامج والدعامات التعليمية واستثمار التجارب الرائدة السابقة في موريتانيا وفي بلدان الجوار قبل 30 يونيو 2022 ؛ و تكوين المدرسين وفرق التأطير قبل 30 يونيو 2023 ؛ و فتح أولى الأقسام التجريبية لتدريس اللغات الوطنية عند افتتاح السنة الدراسية في أكتوبر 2023 ؛ و تجريب تدريس اللغات الوطنية لغير الناطقين بها في أكتوبر 2023 ؛ و تعميم تدريس اللغات الوطنية في أكتوبر 2028. وفي نهاية فترة التجريب وكدليل على التوحيد التام للنظام التربوي، ستعود مهام الهيئة إلى المؤسسات التي تدخل تقليديا في صلاحياتها )أي المفتشية العامة للتهذيب، والمعهد التربوي الوطني، ومدارس التكوين).

ج/ التعليم الإعدادي)

ه——————ه

يصف التقرير التعليم الإعدادي بأنه سيكون” قاعدة مشتركة وتعلمات اختيارية تعضّد مكتسبات التعليم الابتدائي وتهيّئ لمسارات ما بعد التعليم القاعدي”.

وأفهم من التقرير أنه سيتم في التعليم الإعدادي -في الحاضر والأمد القريب- اعتماد اللغة العربية كلغة تدريس نظرا لمكانتها الرسمية وللحفاظ على مطلب وحدة النظام التربوي.

كما ينتظر في أفق آخر بدءا بالأمد المتوسط أن تنضاف خيارات أخرى كلغات تدريس للإعدادية، تبعا لتقدم ونجاعة خطط ترقية اللغات الوطنية الثلاث الأخرى ، حفاظا على مطلب آخر هو رعاية مبدأ التدريس بلغة الأم ما أمكن ذلك.

ويستخلص ذلك مما نص عليه التقرير من كون اختيار لغات التدريس يجب أن ينبع “من مقتضيات الوصول إلى المعارف بالطريقة الأسهل والأكثر فعالية وإنصافا. ومن هنا تنبع الحاجة الملحة لإيلاء أهمية كبيرة للتعليم بلغة الأم وضمان الاختيار السديد للغات الانفتاح .ومن المعترف به في سياق متعدد اللغات أن الأمثل هو اضطلاع اللغة الأكثر استعمالا بالدور الأهم في توحيد النظام التربوي” .

وبخصوص اللغة العربية يؤكد التقرير أن أحد الأهداف التربوية التي سيتم العمل عليه، هو “إتقان اللغة العربية بوصفها اللغة الوطنية الرسمية، وأداة اكتساب المعارف على جميع مستويات التعليم، وكوسيلة تواصل اجتماعي، وأداة عمل وإنتاج فكري”.

وبخصوص لغات الانفتاح ينص التقرير على هدف تربوي آخر سيتم العمل عليه أيضا، وهو ” إتقان ما لا يقل عن لغتين أجنبيتين كوسائل انفتاح على العالم وكسبل للوصول إلى مصادر المعلومات والتبادل مع الثقافات والحضارات الأجنبية”.

تعليق:

اعتماد اللغة العربية كلغة تدريس في الإعدادية، للمواد العلمية والأدبية معا، هو ما تتبناه تونس. وهو في ما يبدو لي خيار ملهم لبلادنا في الأمد القريب والمتوسط، أي طالما ظلت لغة التدريس في التخصصات العلمية (بمعنى العلوم التجريبية من رياضيات وفيزياء وهندسة وتقنيات … الخ) في المؤسسات الجامعية لدينا لا تتوفر إلا باللغة الفرنسية، وما دام استخدام اللغة الفرنسية في الإدارة مهيمنا.

أما في الأمد الطويل عندما تتوفر في جامعتنا مثل هذه الدراسات العلمية المتخصصة باللغة العربية، فعندها يجب الرجوع إلى الأصل وهو اعتماد اللغة العربية لغة تدريس في كل مستويات التعليم، وكذلك الأمر بالنسبة للغات الوطنية حين تصل في ترقيتها إلى مستوى كاف من العالمية والقدرة على نقل المعارف.

الخيار التونسي، الذي أشرنا إليه، يتمثل في الجمع بين اعتماد اللغة العربية كلغة تدريس لكل المواد العلمية والأدبية في المرحلة الإعدادية، وبين اعتماد الفرنسية لتدريس المواد العلمية في المرحلة الثانوية (المعدة للدراسة الجامعية) مع استمرار تدريس المواد الأدبية في الثانوية باللغة العربية لمزيد من الرسوخ فيها.

هذا الخيار التونسي يقابله في جوارنا الإقليمي خيار آخر كانا سائدا في الجزائر والمغرب معا، حتى وقت قريب، وهو تدريس كل المواد في المرحلتين الإعدادية والثانوية باللغة العربية، وقد واجهته في كلي الدولتين مشاكل في الانسجام مع كون الدراسات الجامعية للتخصصات العلمية فيهما باللغة الفرنسية. وعلى إثر ذلك، قرر المغرب منذ 2019 فتح خيار جديد باسم المسار الدولي لتدريس المواد العلمية، في الإعدادية والثانوية معا، باللغة الفرنسية، وتسعى الجزائر إلى تحقيق الانسجام المنشود من خلال انفتاح أعمق على اللغة الإنكليزية كلغة علوم عصرية.

2/ التعليم الثانوي

ه=========ه

يصف التقرير التعليم الثانوي بمفهومنا هنا (أي السلك الثاني من التعليم الثانوي بالمفهوم الواسع) بأنه يقدم فرصة للمتابعة في جذع مشترك ومسارات متنوعة على شكل أقطاب وشعب متخصصة، حيث يتمثل الجذع المشترك في سنة مشتركة، تعقبها سنتان من التخصص. ويفيد التقرير بأنه ” يمكن الشروع في إعادة هيكلة وتنويع الشعب ابتداء من دخول 2022 أو 2023 على أبعد تقدير”.

يضم التعليم الثانوي في ثوبه الجديد المقترح مسلكيْن : (أ) مسلك عام، و(ب) مسلك فني مهني. ويُقسّم كل مسلك إلى أقطاب تتضمن شعبا، تحتها خيارات.

أما المسلك العام فإنه يضم قطبيْن: قطب الإنسانيات وقطب العلوم والتقنيات، ويُقترح في هذا الإطار:

بالنسبة لقطب العلوم والتقنيات:)أ( تحويل الشعبة العلمية إلى شعبة تسمى “العلوم التجريبية” ذات ثلاثة خيارات: علوم الحياة والأرض، وعلوم البيئة، وعلوم المادة، )ب( تحويل شعبة الرياضيات إلى شعبة ذات اختياريْن: الرياضيات والتقنيات، والرياضيات والعلوم، )ج( فتح شعبة للعلوم الاقتصادية ذات اختيار واحد ؛

وبالنسبة لقطب الإنسانيات: )أ( تحويل شعبة الآداب العصرية إلى شعبة تسمى “الآداب والعلوم الإنسانية” ذات اختيارين: الآداب والعلوم الإنسانية، والآداب واللغات، )ب( ترقية شعبة الآداب الأصلية لتشكل معبرا جذّابا لخريجي المحاظر ووسيلة لحفظ وتعزيز تقاليد التبحّر والموسوعية العبقرية للشناقطة في مجالات العلوم الإسلامية واللغوية.

تعليق: يبدو لي أن تقسيم الشعب إلى خيارات سيضفي تعقيدا على المشهد التعليمي، في المنظور القريب على الأقل، وربما يواجه تحديات عملية من حيث قدرة الإدارة على وضع ميكانيزمات توجيه فعالة ومنصفة في نهاية الإعداية، ومن حيث نقص الوعي المتوقع لدى معظم التلاميذ وذويهم حول الخيارات المناسبة لهم، اللهم إلا إذا كانت لتقسيم الشعب إلى خيرات إيجابيات فورية منتظرة لصالح كفاءة التعليم الجامعي اللاحق.

وأما المسلك الثاني، وهو المسلك الفني المهني، فإنه سيتم تنسيق البنية التنظيمية للتكوين الفني والمهني من خلال: )أ( تأهيل الشباب في وضعية تسرّب مدرسي أو غير المتمدرسين على أساس محو أمية وظيفية يجمع الوضع في حالة تدريب متطور، )ب( وإعادة هيكلة التعليم الف ني من منظور تعليم للجميع يدوم 9 سنوات بإدخال اختيار للتعليم الفني القاعدي من مستوى السلك الأول الثانوي، )ج( إعادة هيكلة وتنويع التعليم ما بعد القاعدي (وهو حاليا السلك الثاني الثانوي) بفتح شعب للتعليم التكنولوجي لا سيما شعب الهندسة الميكانيكية، والهندسة الكهربائية، والاقتصاد والتسيير، والزراعة، إلخ.، من جهة، وتطوير تكوين مهني معدّل لاستقبال أكبر عدد من منظور الضبط الأمثل للتجاوز إلى السلك الثانوي أخذا في الاعتبار لحاجات الاقتصاد الوطني إلى الأطر المتوسطة، من جهة أخرى.

خاتمة

ه===ه

في تقييمي الشخصي للأيام التشاورية حول إصلاح النظام التعليمي، التي تضمن هذا المقال خلاصة وتعليقات حول أهم مخرجاتها مما له تعلق بموضوع الساعة وهو لغة التدريس وتدريس اللغات، فإني أرى أنها كانت حدثا وطنيا، بالغ الأهمية لمستقبل بلادنا، ومبادرة حكومية موفقة. وكانت عمليا بمثابة عملية عصف ذهني لجمع غفير من المختصين والمهتمين، وأنتجت تقريرا مرجعيا ثريا بالأفكار الإبداعية والعملية.

وأحسب، والله أعلم، أن هذه الأيام ستكمل بخطوات إضافية، على مستوى اللجنة الاستشارية العليا حول إصلاح التعليم وعلى مستوى الحكومة، تتضمن مزيدا من الدراسة التفصيلية المتخصصة لمخرجاتها، لضمان الموازنة بين الآمال النظرية المشروعة من جهة ومعطيات الواقع العملي ومطلب التدرج الطموح والحكيم في آن واحد من جهة أخرى، وكذلك لضمان ترتيب أمثل للأولويات بين مختلف المشاريع والأنشطة المقترحة في ضوء الإمكانات الميزانوية المتاحة والممكنة في الأفق القريب.

هذا وقد تضمنت مخرجات الأيام التشاورية مقترحات أخرى بالغة الأهمية ، لولا خشية الإطالة لكنت أعطيتها حقها في الاستعراض، وأكتفي هنا بذكر بعض العناوين المعبرة عنها:

– استحضار كون المدرّ س هو محور العملية التعليمية، وتثمين دوره ومكانة مهنته، والسعي لتأهيله العالي وتحفيزه الجيد كضمانة لنجاعة العمل المدرسي.

– الحرص على تطوير الأنشطة التي تهدف إلى امتثال تعاليم ديننا الحنيف. وتحضرني في ذلك أهمية إعطاء أولوية خاصة لمادة التربية الإسلامية في المرحلة الإعدادية، التي توافق غالبا سن البلوغ لدى الأطفال بحيث تتعهد المدرسة الجمهورية تحصيلهم من العلوم الشرعية وتعمل على استكمال نواقصهم في فروض العين اليومية.

– استحضار كون العمل التربوي يجب أن يبرز ما يدعو إليه ديننا الحنيف من الاعتدال والتسامح والانفتاح المنضبط على الآخرين؛

– إقامة عرض تعليمي غير مصنف لاستقبال الأطفال الذين هجروا الدراسة مبكرا وأولئك الذين لم يلتحقوا بالمدرسة في الوقت المناسب، وذلك لمنحهم فرصة ثانية للحصول على تعليم أساسي يمكّنهم إما من مواصلة الدراسة في التعليم النظامي أو الالتحاق بالتكوين الفني والمهني أو الاندماج في الحياة النشطة. وهذا المقترح في نظري هو أمر بالغ الأهمية الاستيراتيجية، خاصة في ضوء مستويات النجاح الحالية في امتحانات شهادتي الإعدادية والثانوية، كما رأيناها في ختام السنة الدراسية الماضية.

– إنشاء لجنة وطنية للمناهج يكون من مهامها على وجه الخصوص تحديد التوجيهات والإطار التصوري والمنهجي الذي يتحكم في عملية إعداد البرامج والكتب المدرسية.

– تخفيف المحتويات وتشذيبها لحذف ما هو غير ضروري إما لتكوين التلميذ، وإما لمتابعة دراسته بتخصيص أكثر الوقت للتكوين على التفكير النقدي، وعلى قدرات التحليل والاستدلال، وعلى استيعاب المنهج العلمي. ويحضرني من أمثلة ذلك مادة الفلسفة التي كانت مقررة في شعبة الرياضيات، حيث لا تنسجم مع التخصص وليست مبرمجة في امتحانات الباكلوريا.

– السهر على بناء ثانوية واحدة على الأقل، كاملة البنية، في عاصمة كل مقاطعة، على أن تزوّد بقسم داخلي للتلاميذ الوافدين من مناطق أخرى وبسكن للمدرّسين. وتؤكد أهمية ذلك عندي التجارب السابقة والحالية لأثر الأقسام الداخلية على تركيز التلاميذ في دراستهم وعلى رفع مستوى استغلالهم للأوقات خارج الفصل.

– استحضار كون التعليم المحظري مصدر فخرنا واعتزازنا، فالمحظرة تشكّل نظامنا التربوي العريق الذي جعل من بلادنا مهدا للعلم والمعرفة عدة قرون قبل استقرار المستعمر في بلاد شنقيط في القرن الماضي. وقد تضمن التقرير اقتراحات عملية متقدمة للأخذ في الاعتبار بما يقدمه التعليم الأصلي من إسهام في التعليم القاعدي للجميع، ولإقامة جسور تمكّن المتعلمين في المحظرة من ولوج مختلف أطوار التعليم النظامي، ولتكريس التكامل ما بين التعليم الأصلي والتعليم النظامي بصفة عامة.